يسأل مراقبون، لماذا ينوي كل من أحمد داود أوغلو وعلي باباجان، تشكيل حزبين جديدين متنافسين، بدلا من حزب واحد، يكون أقوى في الساحة السياسية التركية، المليئة بالتحديات. ولعل مشروعية هذا السؤال، تنبثق من أن الرجلين من نفس الحزب، أي حزب العدالة والتنمية، قبل أن يستقيل باباجان قبل نحو شهر، ولهما بصمة واضحة في مسيرته، وسبق أن عملا معا في العديد من مراحل حكم العدالة والتنمية.
أوجه التشابه
في الواقع، ما يجمع أوغلو وباباجان، ولاسيما على صعيد المواقف والتقاطعات كثير، إلا أن ما يثير الاختلاف بينهما أكثر، وهي اختلافات وخلافات تتعلق بالرؤى ومرجعية التفكير والنظرة العامة، أكثر من المواقف السياسية المتعلقة بالحكم والحقوق والسلطة، فالرجلان وبعد طول صمتهما على سياسات أردوغان وممارساته، باتا يعترضان على هذه السياسات بقوة، وعلى طريقة إدارته للسلطة والبلاد، وعلى ممارساته وخطاباته، مع الإشارة إلى أن صوت أوغلو أقوى لجهة توجيه الانتقادات اللاذعة لأردوغان، كذلك يتفق الرجلان على فصلٍ واضح بين السلطات في ظل النظام الرئاسي، وعلى عدم انتماء الرئيس لأي حزب سياسي، كما هو حال الرئيس أردوغان، كما يتفقان على استمرار تركيا في علاقتها التاريخية بالغرب، بشقيه الأوروبي والأمريكي، وتحقيق إصلاحات اقتصادية وقانونية ودستورية وسياسية، مطابقة لتلك في الدول الغربية، تطلعا إلى العضوية الأوروبية.
أوجه الاختلاف
في مقابل، نقاط التشابه والتوافق هذه، بين الرجلين، ثمة قضايا خلافية كثيرة بينهما، من بينها قضايا جوهرية تصل إلى مستوى التناقض، ولعل من أهم هذه القضايا، قضية ايديولوجية أو مرجعية الحزب المرتقب إعلانه، على نحو، هل ستكون ايديولوجيته إسلامية أم علمانية ؟ من الواضح، أن هذه القضية، تشكل فرقا جوهريا بينهما، فأوغلو أقرب إلى اعتماد الهوية الإسلامية، فضاءا فكريا وسياسيا وايديولوجيا للحزب الجديد، فيما باباجان يبدو علمانيا وليبراليا، ويرفض إشراك الجماعات الإسلامية، ولاسيما الإسلام السياسي في إدارة البلاد، وأحيانا يبدو أقرب إلى سياسة الراحل تورغوت أوزال، لجهة اتباع سياسة تسامح اجتماعي مع الجماعات الإسلامية، ولاسيما الطرق الصوفية المنتشرة في البلاد. الفارق الآخر بينهما، هو طبيعة العلاقة مع حزب العدالة والتنمية، فأوغلو ورغم انتقاداته الشديدة لأردوغان وبعض سياسات الحزب، إلا أنه ما زال يتحدث وكأنه من داخل الحزب، وتحديدا كمجدد له، وهو ما يجعل إمكانية تخليه عن تشكيل حزب جديد، والعودة إلى القيام بدور مؤثر في حزب العدالة والتنمية ممكنا، ولعل هذا الأمر، يتوقف على أردوغان، وكيفية تعاطية مع ما يجري لحزبه، وتطلعات وتحركات كبار قادته السابقين. في المقابل، بإعلان باباجان استقالته من حزب العدالة والتنمية، بات الأخير منافسا إن لم نقل خصما له ولحزبه المرتقب، ولعل النقطة الحساسة هنا، تتعلق بمن سيذهب من قادة وكوادر وجمهور حزب العدالة والتنمية مع باباجان، في وقت يجري الحديث عن شخصيات وازنه، كعبدالله غل وسعدالله أرجين وبشير اتلاي ومحمد شيمشك ومحمد آيدين، وغيرها من الشخصيات المؤثرة، والتي كانت لها بصمة واضحة في مسيرة وحكم في حزب العدالة والتنمية.
النقطة الخلافية الثالثة بينهما، تتعلق بطبيعة النظام الرئاسي، فرغم اتفاقهما على الفصل بين السلطات، إلا أنهما يختلفان على طبيعة هذا النظام، فباباجان يعارض النظام الرئاسي ويدعو إلى الانتقال إلى نظام برلماني جديد بدستور جديد، فيما أوغلو أقرب إلى نظام رئاسي على الطريقة الأمريكية مع فصل واضح للسلطات، أي رئاسة قوية إلى جانب مؤسسات قوية، لا رئاسة شبه مطلقة مع مؤسسات ضعيفة، كما هو حال النظام الحالي في تركيا برئاسة أردوغان، إذ يرى غل أن هذا النظام، فتح باب الاستبداد والدكتاتورية في الحكم. إلى جانب هذه النقاط الخلافية، ثمة قضايا إشكالية في رؤية الطرفين، كالقضية الكردية وطريقة حلها، والموقف من قوى المعارضة التركية على اختلاف مشاربها السياسية، ففي مقابل صمت أوغلو إزاء هذه القضايا، بدأ يتحرك باباجان بمنهجيه نحوها، يمد لها اليد، ويفتح معها الجسور، إلى درجة أنه دعا علنا أوساط المعارضة التركية إلى الانضمام لحزبه المنتظر.
حسابات أردوغان
مع إطلاق البنادق القديمة لحزب العدالة والتنمية، الصوت عاليا، في وجه زعيمهم القديم أردوغان، تتجه الأنظار إلى الأخير، على نحو، هل سيقوم بإصلاحات حقيقية لاحتواء القادة الذين باتوا يغردون خارج سربه؟ أم أنه سيتركهم لقدرهم كما فعل مع كثيرين من قبلهم على اعتبار أن هؤلاء لن يؤثرون على حكمه؟ ثمة من بدأ يتحدث في الكواليس، أن لا هذا ولا ذاك، بل أن أردوغان بات يفكر بقلب الطاولة على الجميع، بما في ذلك حليفه القومي المتطرف دولت باهجلي، وذلك بمد يده من جديد إلى الزعيم الكردي عبدالله أوجلان ومن خلفه الكرد في المنطقة، فبلغة الأرقام، بات كرد تركيا "بيضة القبان" في أي انتخابات في البلاد، كما أن تحريك مسار السلام مع أوجلان، يعني إعادة ترتيب المشهد السياسي التركي الداخلي سياسيا وانتخابيا، فضلا عن كسب الكرد في الداخل والخارج، بعد أن باتوا مفردة مهمة في المنطقة، ولعل هذه الخطوة ستحظى بمباركة أوروبية وأمريكية قوية، من شأنها تقريب المسافات معهما بعد أن تضررت كثيرا، ربما يبدو غريبا مثل هذا التفكير، لكن في مسيرة أردوغان وتجربته، الكثير من هذه الخطوات الانقلابية، فهو يمتلك قدرة فريدة على تحويل الخصومات إلى التحالفات أو العكس، عندما يقتضي مستقبله السياسي ذلك. ولعل الاعتقاد بأن هذا الخيار قد يظهر إلى الساحة التركية في المرحلة المقبلة، له علاقة بمصير أردوغان نفسه، فإذا ضحت التوقعات بأن نحو قرابة مئة نائب من العدالة والتنمية سيلتحقون بأوغلو وباباجان فور إعلانهما تشكيل أحزاب جديدة، فهذا سيؤدي إلى فقدان العدالة والتنمية الأغلبية في البرلمان، وهو ما سيتيح للمعارضة التركية الدعوة إلى استفتاء جديد على التخلي عن النظام الرئاسي والعودة إلى النظام البرلماني، وكذلك الدعوة إلى انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة، وهو ما سيجعل مصير أردوغان ونظامه في خطر، في ظل انهيار شعبيته وتفكك حزبه والأزمة الاقتصادية التي تتفاقم يوما بعد أخر.
وعليه، ثمة من يرى أن سيناريو ذهاب أردوغان إلى قلب الطاولة على الجميع للحفاظ على سلطته بقي الخيار الوحيد للبقاء في سدة المشهد السياسي التركي.