لم تأبه تركيا كثيرا للعقوبات التي فرضتها أوروبا عليها مؤخرا، بسبب إصرارها على التنقيب عن الغاز في شرقي البحر الأبيض المتوسط وتحديدا في المياه الإقليمية لقبرص، بل وبلهجة التحدي، أعلنت أنها سترسل المزيد من السفن إلى هناك، وهو ما يوحي، بأن فصلا ساخنا ستشهده منطقة شرقي المتوسط، تلك المنطقة التي تحولت مع اكتشاف كميات هائلة من الغاز والنفط إلى محط أنظار اللاعبين الكبار والطامحين إلى الطاقة، وطرق إمداداها.
التحرك التركي خلافا للقانون الدولي
وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982 والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1994، تمتد المياه الإقليمية لبلدٍ ما /12/ ميلا في البحر، إلا أن المنطقه الاقتصادية الخالصة لذلك البلد، يمكن أن تمتد /200/ ميلٍ، حيث باستطاعته المطالبة بحقوق الصيد والتنقيب والحفر، وعندما تكون المسافة البحرية بين بلدين أقل من /424/ ميلا، عليهما تحديد خط فاصل متفق عليه بين منطقتيهما البحريتين، وتلحظ الاتفاقية حقوق الجزر البحرية كما هو حال قبرص، ولعل هذا ما يفسر سبب عدم توقيع تركيا الاتفاقية حتى الآن، وتطالب بدلا من ذلك بحقوق استنادا إلى جرفها القاري، وتوقيع اتفاقية للجرف القاري مع جمهورية شمال قبرص التي لا يعترف بها أحد سوى أنقرة، بعد أن أعلنتها تركيا جمهورية مستقلة عقب غزوها لشمال قبرص عام 1974 بحجة حماية الأقلية التركية هناك، فيما السلوك التركي هذا يتنافض مع حقوق قبرص وفقا للقانون الدولي، إذ ان العالم لا يعترف سوى بجمهورية قبرص اليونانية التي هي عضوا في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني قانونيا الاعتراف بسيادتها على جميع أراضيها. وهذا الاعتراف الدولي ينزع عن تركيا الذارئع القانونية التي ترفعها في معركة الطاقة شرقي البحر المتوسط.
استراتيجية عسكرة شرقي المتوسط
ثمة من يرى أن التحرك التركي في شرقي المتوسط بحثا عن الطاقة والغاز جاء لجملة من الأسباب، لعل أهمها:
1- إن تركيا وبعد عمليات البحث في مياهها الإقليمية لم تعثر على الطاقة، ولذلك وجدت في التوجه نحو قبرص مدخلا لتأمين موارد مهمة من الطاقة.
2– إن التحالفات الإقليمية والدولية التي تشكلت على وقع اكتشاف كميات هائلة من الطاقة في شرقي المتوسط عزلت تركيا وجعلتها في موقع المحاصر.
3- إن التحرك التركي جاء لفرض أمر واقع، هدفه دفع الدول المعنية إلى إشراك تركيا في هذه التحالفات، وجعلها ممرا لإمداد الطاقة من المتوسط إلى أوروبا.
هذه الأسباب وغيرها، دفعت أنقرة إلى اعتماد سياسة إرسال السفن للتنقيب عن الغاز والنفط في المياه الإقليمية لقبرص، واللافت ان أسماء السفن التي أرسلتها تركيا حملت معاني سياسية تاريخية، فالسفينة الأولى حملت اسم "الفاتح" نسبة إلى "السلطان العثماني محمد الفاتح"، والثانية حملت "بربروس" نسبة لــ"لجنرال العثماني خير الدين بربروس باشا"، والثالثة حملت اسم "يافوز" أي الحازم، وهي جميعها أسماء تشكل استفزازا للدول الاوروبية ولاسيما اليونان بسبب الصراع التاريخي بينهما خلال عهد الدولة العثمانية، واللافت أن هذه السفن عملت بحماية قوات بحرية تركية، ولم تكتف تركيا بذلك بل استخدمت القوة ضد سفن أجنبية، جاءت للتنقيب وفقا لاتفاقيات مع قبرص، كما حصل مع السفينة التي أرسلتها شركة "إيني" الإيطالية العام الماضي، عندما أرغمتها سفن حربية تركية على المغادرة بالقوة.
تركيا في مواجهة تحالف عالمي
التحركات التركية تجاه شرقي المتوسط، كانت سببا في بلورة مواقف، ومسارعة أطراف دولية إلى الدخول في المعركة، ونشوء منتديات وتحالفات إقليمية ودولية، ولعل من أبرز ما جرى في هذا السياق:
1- إعلان شركة "إكسون موبيل" الأميركية في شباط/فبراير الماضي الدخول على خط التنقيب عن الغاز في شرقي المتوسط، وهو ما جعل من الولايات المتحدة لاعبا أساسيا في هذه المعركة، ولعل هذا ما يفسر النشاط الكبير الذي تبذله واشنطن على خط لبنان–إسرائيل للتوصل إلى اتفاقيات نهائية بشأن التنقيب عن الطاقة في البحر.
2- إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط، والذي عقد مؤتمره الأول في مصر قبل أيام، ويضم المنتدى كل من مصر وقبرص واليونان وإسرائيل والسلطة الفلسطينية والأردن وإيطاليا، فيما لم يشمل المنتدى تركيا في عضويته، وسط أنباء عن انضمام كل من فرنسا والولايات المتحدة في وقت قريب.
3- موافقة مصر الشهر الماضي على إقامة خط أنابيب للغاز تحت سطح البحر من حقل "أفروديت" في قبرص إلى المحطة المصرية لإسالة الغاز ومن ثم تصديره إلى الخارج.
4- توقيع سلسلة اتفاقيات بين مصر وقبرص واليونان على شكل تحالف إقليمي في مجال الطاقة بالمتوسط، واتفاقيات أخرى مماثلة بين قبرص وإسرائيل.
5- تحرك أوربي واضح لدعم قبرص في الصراع مع تركيا بشأن الطاقة في المتوسط، وقد تجلى هذا الأمر في العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوربي منتصف الشهر الماضي على تركيا، ورغم أنها كانت عقوبات رمزية سياسيا وماليا، إلا أنها شكلت رسالة سياسية قوية لتركيا بضرورة الوقوف عن نهج العسكرة في المتوسط واحترام سيادة قبرص وفقا للقانون الدولي. 6- لعل الأهم في هذه التطورات، هو قانون أمن الطاقة في المتوسط والذي يبحث الكونغرس الأميركي هذه الأيام، ومن شأن إقراره رفع الحظر عن بيع السلاح لقبرص، وإنشاء مركز أميركي دائم للطاقة في المتوسط، وهو ما سيشكل ضربة كبيرة للموقف التركي.
التصعيد إلى أين ؟
في الواقع، من الواضح أن المساعي التركية السابقة، ليست سهلة التحقيق إن لم نقل مستحيلة، فتركيا تبدو في مواجهة تكتل إقليمي دولي ضخم، ويكاد إلى اليوم لا يوجد أي موقف دولي مؤيد لتركيا في هذه الأزمة، بل حتى روسيا الحليفة الجديدة لتركيا تبدو مستفيدة من هذا الأمر، وذلك تطلعا إلى إبقاء تركيا تحت رحمتها في مجال الطاقة، حيث تعتمد الأخيرة على روسيا في تأمين /65/ بالمئة من حاجاتها للغاز.
وجاء رفض قبرص للمقترحات التي قدمتها جمهورية شمال قبرص بهذا الخصوص، وهي اقتراحات تركية بالأصل، لتزيد من صعوبة المهام أمام أنقرة، إذ تبدو الأخيرة أمام خيارين، فإما مواصلة سياسة العسكرة عبر فرض أمر واقع في شرقي المتوسط، وهو ما يفتح خيار المواجهة العسكرية ولاسيما في ظل تفاقم الخلافات التركية–اليونانية، أو التراجع عن سياسة العسكرة والإلتزام بالقانون الدولي الذي يلحظ السيادة الكاملة لقبرص، وهو ما يعني خسارة تركيا لمعركة الطاقة في شرقي المتوسط.
وأمام هذين الخيارين الصعبين، لا يبدو أن تركيا ستتراجع وإن أبدت مرونة في مراحل معينة لأسباب تكتيكية، منها وقف إرسال سفن التنقيب بشكل مؤقت، وربما الهدف من وراء هذا التكتيك هو تعزيز سياسة العسكرة في قبرص في ظل الأنباء التي تتحدث عن بدء تركيا إقامة قاعدة عسكرية بحرية دائمة في شمال قبرص، وهو ما يرجح خيار التصعيد العسكري في منطقة شرقي المتوسط، التي تحولت إلى واحدة من أهم المناطق الجيوسياسية الحساسة لأمن العالم.