ان يطارد تنظيم «داعش» مجموعة من جامعي «الكمأ» في صحراء الانبار العراقية، ويتعرض لحافلات لنقل الأهالي، ويفجر عبوة ناسفة هنا وهناك، لايعني ان التنظيم بإمكانه العودة لتنفيذ عمليات عسكرية كبرى لإسقاط المدن كما فعل خلال السنوات الماضية، لكنه يعني انه سيكون موجوداً بطريقة وأخرى، ليثبت قدرته على الاستمرار بانتظار هزة اجتماعية او سياسية او اقتصادية جديدة تتيح له النهوض مجدداً، ولكي يمنح المستفيدين منه اسباباً كافية للاستمرار ايضاً.
بعض التقارير المقلقة حول نشاط التنظيم في العراق تشير الى سيطرته الليلية على بعض القرى في جبال مكحول جنوب كركوك، وتنفيذه اغتيالات نوعية في الموصل، وان خلاياه التي عاد بعضها مع عودة النازحين الى الفلوجة تحاول استعادة سطوتها، بل ان معلومات تؤكد ان بعض عناصر التنظيم او مؤيديه السابقين، وانهم يتجولون بشكل شبه علني، ويدخلون المساجد، ويذكّرون معارضيهم بالمصائر السابقة.
كل ذلك مقلق حقاً، خصوصاً انه يرتبط بشكاوى بدأت تتصاعد حول وجود عناصر الفصائل المسلحة من الحشد الشعبي في المدن المحررة، وشكاوى اخرى عن اعمال ابتزاز الاهالي العائدين، وسيطرة مباشرة وغير مباشرة لتلك الفصائل على القرار الامني والسياسي والاقتصادي، كما ان التقارير لاتتوقف عن وجود اعتداءات وتجاوزات في ملف معسكرات الاحتجاز الخاصة بعائلات عناصر «داعش».
وهذه البيئة رغم انها مازالت تعبر عن نفسها باحداث توصف رسمياً بانها «فردية» و»غير ممنهجة» فانها تمثل امتداداً للخلل الاداري والسياسي المزمن في ادارة البلاد، والفشل المستمر في فرض هيبة الدولة كراعٍ شرعي وحيد لحقوق الناس، ومحتكرٍ لوسائل عقاب المتجاوزين على القانون منهم.
ومن تلك النقطة الأخيرة، يمكن الحديث عن مشهد موازٍ يمثله المستفيدون من «داعش» امس واليوم وغداً، وهؤلاء كثر، وتربطهم مع التنظيم علاقات وثيقة وقديمة تخص مصالح تجارية، وشبكات تهريب للاسلحة والمخدرات والنفط عبر الحدود، ومقاولين لطالما استثمروا التهديدات الارهابية لتمرير صفقات وعقود، وطرح انفسهم كطرف قادر على العمل متحملاً المخاطر الارهابية، ناهيك عن تبادل المنفعة السياسي والانتخابي.
هذه الشبكة التي تمتد في كل المكونات العراقية، وتفرض حضورها ومصالحها على السياسة والاقتصاد والاعلام، هي الوجه المستتر لـ»داعش» ولكل التنظيمات والمليشيات المسلحة التي ظهرت بعد 2003 ، وهي المسبب الاساسي في استمرار العنف والاضطراب، وهي العدو الأكبر لأي جهد نحو استعادة الدولة، ولهذا تحديداً نجزم ان «داعش» وتنظيمات مسلحة مختلفة ستستمر في نشر الاضطراب، والقيام بعمليات لاتمتلك في الميزان الستراتيجي اي مبرر، على غرار قتل جامعي الكمأ، بل انها ضد المنطق الذي يذهب الى ان «داعش» وهو يتلقى ضربات كبيرة لآخر معاقله في سورية، متوقع ان يحاول الزحف باتجاه صحارى العراق، والكمون هناك لترتيب اوراقه!.
على الباحثين والاعلاميين والمراقبين، ان يبحثوا قبل الاجابة على السؤال المتعلق بمصير «داعش» خلف كل عملية تحمل بصمة التنظيم عن هدف اقتصادي وسياسي مواز، عليهم التمعن في خريطة العمليات المتوزعة هنا وهناك، وعليهم ان يقاطعوها مع خريطة الاستثمار وخريطة المصالح التجارية، وخريطة الرسائل والتصريحات السياسية.
ليس ثمة شك، ولو بقدر محدود، بأن جزءاً كبيراً من الوسط السياسي العراقي، ومن الشركات الحزبية الفاعلة في العراق، ترتبط بشكل مباشر او غير مباشر بمصالح مع «داعش» كما انها ترتبط بالمصالح نفسها مع الفصائل المسلحة الموجودة حالياً، وليس ثمة شك ان تلك المصالح المتبادلة، لن تسمح باختفاء التنظيم او انقراضه، مادام ثمة فائدة من وجوده، وكسر هذه الشبكة، مهمة شبه مستحيلة، وليس مستبعداً ان التهديدات التي تطلق بامكان تصفية بعض خيوطها عبر قوانين مكافحة الفساد، دفعها ويدفعها الى ادامة الفوضى ومنع الدولة من القيام بوظائفها.
لا يشير هذا الحديث الى ان «داعش» قد استنفد مصادر تمويله الخارجية، او قطع سلسلة علاقاته واذرعه الدولية بالكامل، لكنه يجزم، بان الخطر سيكون قائماً في العراق خلال المراحل المقبلة، وان 16 عاماً من كسر الدولة العراقية بإيد داخلية واقليمية، قد أسهم في خلق بيئة سياسية واقتصادية مشوهة، وضعت آليات معقدة وصعبة النسف لامتصاص اموال العراق ومقدراته، مصدر حياتها الوحيد هو ادامة العنف.