في مطلع تسعينات القرن الماضي، مع انتهاء الحرب العراقية الإيرانية بخسارة الطرفين بشرياً واقتصادياً، إضافة إلى تزايد القدرات العسكرية لهما، وخاصة في مجال التصنيع الحربي. أطلق خبراء السياسة الخارجية الأمريكية خطّة لاحتواء كلّ من الدولتين، وكانت تعرف حينها بسياسة الاحتواء المزدوج (لكلّ من إيران والعراق). بعد عام 2003 تغيّرت المعادلة، أسقط نظام الحكم في بغداد، أما نظام الحكم في إيران فقد ترسّخ وتجذّر أكثر، ولم يعد لسياسة الاحتواء المزدوج أيّة فعالية. إذ بدأت مرحلة جديدة للسياسة الأميركية بحضورها العسكري والدبلوماسي الكثيف في العراق والخليج. فتشكل قطبين متناقضين إيران من جهة ودول الخليج العربي من جهة أخرى، وبدأت ملامح مرحلة جديدة تتجاوز سياسة الاحتواء تتشكل. مع ذلك استمرت التصريحات المتفرقة والمتتالية للمسؤولين الأمريكيين والتي توجه عادة لنقد سياسيات الحكم لدول مختلفة في العالم، وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط، انتقادات تبدو للمراقب أنها تتزامن عادة مع تطلّعات الأمريكيين لتمرير صفقات عسكرية أو تجارية ضخمة أو سياسات محددة يطلب تنفيذها من السلطة في هذه الدول موضوع الانتقاد. ولا تركز عادة هذه الانتقادات على طبيعة الحكم في هذه الدول وآلية توزيع الصلاحيات، ولا كيفية توزيع الثروة، فضلا عن آليات انتقال السلطات فيها.
إن تلكّؤ مشروع دمقرطة الحكم في العراق وتعويم القوى الدينيّة، والموقف البراغماتي من إيران وترسخ الطبيعة المذهبية للحكم فيها، وكذلك التعامل الموسمي الباهت مع معارضتها من "إصلاحيين وعلمانيين وبشكل خاص، التعامل المجتزئ مع الحركة الكردية الديمقراطية الناشطة فيها منذ أمد بعيد، وإهمال اليسار الإيراني ممثلا بحزب تودا ومنظمة كومه له" ، بل ثمة مؤشرات على أن أوساط رسمية أمريكية تفضل التعامل مع مجموعات مذهبية انتحارية إيرانية. وما الدور الأمريكي في دفع انتفاضات الربيع العربي نحو العسكرة فالفشل، كل ذلك دليل وتعبير واضح عن عدم جدية الإدارة الأمريكية في تناول مسألة دمقرطة أنظمة الحكم وتغييرها في العديد من دول المنطقة ومن ضمنها إيران، فليس لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منهجٌ نظريّ ولا خطة عملية واضحة لمساعدة الشعوب والحكومات لدمقرطة أنظمتها وتحسين الحوكمة فيها، وإنما تعتمد مبدأ الضغوطات الدبلوماسية والإيحاءات الإعلامية، وتطلق المصطلحات والمفاهيم السياسية العائمة مثل: ضمان الحريات وحقوق الإنسان إلخ ...
لذلك لا يلمس المتابع أيّة جدية في السياسة الأمريكية لتطوير النظم السياسية والحكومات اللاديمقراطية ودفعها نحو مسار تكتسب فيها شرعية دستوريّة، وليتم التأسيس لديمقراطية منسجمة متفاعلة مع حواملها الاجتماعية، إلا باستثناءات قليلة عندما تنصب جهود الإصلاح والتحديث بإتجاه خدمة السياسات الأمريكية بطريقة فاقعة ومباشرة وآنية.
هذه الملاحظة الأساسية مع العديد من المؤشرات الأخرى تبين أن الأجندة الأمريكية في المنطقة تعتمد الاشتغال على تناقضات محلية مزمنة داخل حدود أغلب الدول من جهة، وبين الدول المتجاورة من جهة أخرى. وصولاً إلى الحرص في التعامل مع ثنائيات متفاعلة (سلطة - معارضة) أو( أديان، مذاهب وقوميات) أو مناطق جهوية متباينة داخل الدولة الواحدة ( شمال - جنوب) لتوظيف حدة تناقض هذه الثنائيات، إضافة إلى استثمار العلاقات المتوترة بين الدول المتنافسة في رقعة جغرافية وأقاليم شديدة الحساسية كالخليج العربي، لتأمين بيئة تتشكل فيها ثنائيات متناقضة كبرى كإيران - دول الخليج في المحصلة. وتتجاهل في الوقت نفسه القوى السياسية المستقرة ذات الإرث الفكري والسياسي المتنور، كما لا يهم الإدارات الأمريكية المتعاقبة كثيرا البرامج والأسس الفكرية والمعرفية للمنظمات السياسية ذات التوجه التنويري، وقلما تتعامل معها سياسيا. فجوهر السياسة الخارجية الأمريكية يكمن في العمل باتجاه استغلال هذه الثنائيات، واستثمار جميع الأطراف، سواء بالنسبة لقضايا الشرق الأوسط المركزية كالكردية والفلسطينية أم بالنسبة لمسائل أطرافها ذات الصلة، فحتى الآن لم تثمر السياسات الأمريكية عن أي منجز سياسيّ ذات قيمة لأي طرف – على الرغم من تكاليف تواجدها الباهظ وتدخلها المباشر في المنطقة سوى ما تحققه مرحليا لحليفتها الثابتة إسرائيل، وتثبيت القدس عاصمة نهائية لها. بالتالي تبقى الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعيدة عن المعارضات حيناً وقريباً من السلطات حينا آخر، وتستجر أطراف مصفوفة الثنائيات المتضادة لتقدم لأمريكا المزيد من التنازلات.
لاشك أن هذه الثنائيات المتعارضة ليست اختراعاً أمريكياً ولا غربياً إمبرياليّاً محضاً، وإنّما موجودة بشكل موضوعيّ، لكن على ما يبدو أن السياسة الخارجية الأمريكية تسعى لإعادة ترتيبها وتفعيلها لتحقيق المزيد من المكاسب وسحب البساط من تحت كافة الأطراف. لدرجة يمكن تشبيه هذه الممارسات ووصفها في مرحلة ما بعد الاحتواء بسياسة الابتزاز المزدوج لمجموع القوى السياسية المتزاحمة التي تبحث عن دور محليّ وإقليميّ. وهذه السياسة تبلورت بشكل فاقع في ظل إدارة ترامب. أما إدارة اوباما فكانت تبالغ في دفاعها عن الديمقراطية، فإذا دققنا في خطاب اوباما بجامعة القاهرة (2009): "إن نظام الحكم الذي يسمع صوت الشعب ويحترم حكم القانون وحقوق جميع البشر هو النظام الذي أؤمن به. وأعلم أن جدلا حول تعزيز الديمقراطية وحقوق جميع البشر كان يدور خلال السنوات الأخيرة وأن جزءا كبيرا من هذا الجدل كان متصلا بالحرب في العراق. اسمحوا لي أن أتحدث بوضوح وأقول ما يلي.. لا يمكن لأية دولة ولا ينبغي على أية دولة أن تفرض نظاما للحكم على أية دولة أخرى...ومع ذلك لن يقلل ذلك من التزامي تجاه الحكومات التي تعبر عن إرادة الشعب حيث يتم التعبير عن هذا المبدأ في كل دولة وفقا لتقاليد شعبها. ان أمريكا لا تفترض أنها تعلم ما هو أفضل شيء بالنسبة للجميع كما أننا لا نفترض أن تكون نتائج الانتخابات السلمية هي النتائج التي نختارها ومع ذلك يلازمني اعتقاد راسخ أن جميع البشر يتطلعون لامتلاك قدرة التعبير عن أفكارهم وأرائهم في أسلوب الحكم المتبع في بلدهم ويتطلعون للشعور بالثقة في حكم القانون وفي الالتزام بالعدالة والمساواة في تطبيقه ويتطلعون كذلك لشفافية الحكومة وامتناعها عن نهب أموال الشعب ويتطلعون لحرية اختيار طريقهم في الحياة. إن هذه الأفكار ليست أفكارا أمريكية فحسب بل هي حقوق إنسانية وهي لذلك الحقوق التي سوف ندعمها في كل مكان... إن قمع الأفكار لا ينجح أبدا في القضاء عليها. إن أمريكا تحترم حق جميع من يرفعون أصواتهم حول العالم للتعبير عن أرائهم بأسلوب سلمي يراعي القانون حتى لو كانت آراؤهم مخالفة لآرائنا وسوف نرحب بجميع الحكومات السلمية المنتخبة شرط أن تحترم جميع أفراد الشعب في ممارستها للحكم... إن الحكومة التي تتكون من أفراد الشعب وتدار بواسطة الشعب هي المعيار الوحيد لجميع من يشغلون مراكز السلطة بغض النظر عن المكان الذي تتولى فيه مثل هذه الحكومة ممارسة مهامها.. اذ يجب على الحكام أن يمارسوا سلطاتهم من خلال الاتفاق في الرأي وليس عن طريق الإكراه ويجب على الحكام أن يحترموا حقوق الأقليات وأن يعطوا مصالح الشعب الأولوية على مصالح الحزب الذي ينتمون إليه".
لقد كان هذا الخطاب نظريا مشجعا على الانتفاضات المطالبة بالتغيير والدمقرطة، لكن عمليا لم تقف إدارة اوباما إلى جانب الحراك المطالب بالديمقراطية والتغيير، وبالتالي تم هدر كل التضحيات على هذا الدرب. في حين جاء خطاب منتقده وزير الخارجي الحالي بومبيو الذي ألقاها أيضا في القاهرة (11/1/2019) خاليا من أي دعم للحراك المطالب بالتغيير والديمقراطية، لكنه حرض من جديد على إذكاء نار الصراع الإقليمي المرتكز على أركان مذهبية وسياسية وعلى شيطنة نظام الحكم في إيران: "إن تردّد الولايات المتحدة، ترددنا، في ممارسة نفوذنا جعلنا نلتزم الصمت بينما كان شعب إيران ينهض ضدّ الملالي في طهران في الثورة الخضراء. لقد قتل آيات الله وأتباعهم وسجنوا وروّعوا الإيرانيين التائقين للحرية، ووضعوا اللوم خطأ على أمريكا بسب تلك القلاقل، بينما طغيانهم هو الذي كان يغذّي ذلك. وقد جعل ذلك النظام يتشجّع ويمدّ نفوذه السرطاني إلى اليمن والعراق وسوريا، ويعزّز ذلك النفوذ في لبنان.... فلن تتمتع دول الشرق الأوسط بالأمن أو تحقيق الاستقرار الاقتصادي أو تحقيق أحلام شعبها إذا استمر النظام الثوري الإيراني في مساره الحالي. في سوريا، ستستخدم الولايات المتحدة الدبلوماسية والعمل مع شركائنا لطرد آخر جندي إيراني منها، والعمل من خلال المسار السياسي الذي تقوده الأمم المتحدة لإحلال السلام والاستقرار للشعب السوري الذي طالت معاناته. لن تكون هناك مساعدات من الولايات المتحدة لإعادة أعمار المناطق السورية التي يسيطر عليها الأسد حتى تنسحب إيران وقواتها بالوكالة وحتى نرى تقدما لا رجعة فيه باتجاه حلّ سياسي."
نفترض أنه في حال خلوّ الساحة من أية مبادرات سياسية إقليمية فكلّ الأطراف المنتظمة في ثنائيات المنطقة ستتعرض لمزيد من الإضعاف والابتزاز. وبالتالي تتعمّق أزمة الثقة بينها، وتتحوّل سياسات الابتزاز الأمريكية إلى واقع ثقيل وخطير يصعب تجاوزه. لذلك إن بقاء كلّ من السلطة والمعارضة في أغلب الدول بعيدة عن مداخل الحوار والبحث الجاد عن الحلول لمعضلاتها القائمة، وكذلك استمرارية تناقضات الدول المتجاورة المتنافسة، ستؤجل المسائل الخلافية وتعقدها.
فمن الضروري أن تسعى النخب والقوى الفاعلة في المنطقة لفتح قنوات الحوار الجدي فيما بينها لتشخيص معضلات المنطقة الجوهرية، لذلك لابد من مبادرات جريئة تنبع من مصالح شعوبها لوضع خطة للوفاق الإقليمي، تعتمد مصالح الشعوب أساساً للعمل.
فكون أمريكا دولة قوية وفاعلة فهذا لا يعني أبداً أنها رسول السلام والديمقراطية وقادرة على حل إشكالات التاريخ والجغرافيا والاجتماع المزمنة في المنطقة، وخاصة أنها لم تدعي يوماً ولم تعبر لحظة واحدة عن أيديولوجيا أو مشروع نظري سياسي واضح المعالم بهذا الخصوص.