استضافت فرنسا احتفالية الذكرى المئوية لتوقيع الهدنة الألمانية الفرنسية، وبالتالي ذكرى إنهاء الحرب العالمية الأولى في يومي 10 و11 نوفمبر 2018. في رمزية تذكر بتوافقات السلام ومآسي الحرب التي دمرت أوربا طوال أربع سنوات كارثية من تاريخ أوربا، كما غيرت المشهد السياسي العالمي عصرئذ. تضمن الحفل أيضا منتدى مهم بإسم ملتقى السلام، شارك فيه حوالي ثمانين رئيس دولة من مختلف أرجاء العالم، بغياب بريطاني وأمريكي لافت لنظر المراقبين وبدلالة سياسية ودبلوماسية ذات مغزى عميق.
تم الملاحظة من سياق رمزية الحفل ودلالته، بروز الاهتمام بالمركزية الأوربية من جديد، مع تبادل التهم والتحذيرات المتكررة من تنامي النزعات القومية الأوربية المولدة للصراعات. هذا وقد ترافقت هذه المخاوف مع دعوة الرئيس الفرنسي ماكرون بتأسيس جيش أوربي موحد لحماية أوربا، مما دفع الرئيس الأمريكي ترامب بالرد بعنف واصفا المقترح بالمهين. وربما كان تلك التصريحات وراء عدم مشاركة ترامب في منتدى السلام في اليوم الثاني من الاحتفالية. فيما ظلت بريطانيا صامتة وبعيدة عن المشهد.
لقد ركز الحفل على أهمية اتفاق الهدنة الألماني – الفرنسي قبل مئة عام، ودوره في تجديد التضامن فالسلام الفرنسي – الألماني الذي يعزز السلم العالمي ويعيد توحيد أوربا على ركيزة التوافق الفرنسي الألماني، بتشجيع دول أوربية أخرى وازنة مثل ايطاليا ودول من أوربا الشرقية. جاء كل ذلك ربما في مسعى للتخفيف من تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي وتزايد تصريحات ترامب باتجاه تسجيل النقاط على الأوربيين، مرجحا فضل أمريكا في حمايتهم. في الوقت الذي كان يتمايل بوتين في مشيته مختالا نحو الصف الأمامي للمحتفلين منتظرا مزيدا من التصدع في الجبهة الأوروأمريكية لاقتناص المزيد من الفرص، سعى لتسجيل حضور ملموس. مهما يكن فقد أفصح مناخ الاحتفالية عن أن العالم الغربي يتصدع ولكن كيف ومتى؟
هذا ما لا يمكن الإجابة السريعة والبسيطة عليه، فمركز القرار ومولدات التصدع كانت ومازالت تتمثل في المصالح الرأسمالية والصراع على النفوذ خارج جغرافية أوربا. هذا الصراع العنيف والدموي الذي يجري على شكل حروب في القارات والأقاليم الأخرى، خاصة في الشرق الأوسط، أمريكا اللاتينية وأفريقيا. وما يثير الشكوك في حقيقة النوايا السلمية الأوروأمريكية هي عدم دعوة دول مركزية شرقأوسطية كمصر والسعودية وإيران، والاقتصار على إسرائيل وتركيا. فضلا عن غياب لممثلي بؤر الصراع وضحايا الحرب مثل السوريين والكورد وحتى الحكومة العراقية. وهذه الانتقائية في الدعوات تثير المزيد من الشكوك في أن السياسات الغربية مازالت تفضل الحروب بالوكالة وهي ليست جادة في تأمين مناخات السلم في الشرق الأوسط، وبجوار منابع الطاقة تحديدا. وما دعوة السيدة ناديا مراد الحاصلة على جائزة نوبل للسلام إلى ملتقى السلم وترحيب ماكرون بها شخصيا، إلا إعلان سياسي، استعراض وذر الرماد في عيون الكُرد والعراقيين.
بعد مئة عام من الهدنة مازالت الحرب مستمرة بطريقة أو أخرى، حيث دخلت البشرية مرحلة التحكم الذكي للرأسمال العالمي بمفاصل السلطة في الدول الكبرى. و مراكز صناعة القرار في العالم الرأسمالي لم تقرر بعد قطع جذور العنف والصراعات. فنشر ثقافة السلام وقطع جذور النزعات العنفية والحروب المحلية لا يتم فقط بالمراسم والاحتفالات واجتماع الرؤساء وزوجاتهم على أهميته، لكن تتطلب الكشف عن حقيقة القوى والدوافع المولدة للحروب والتي هي في الغالب وبنسبة مطلقة، اقتصادية رأسمالية احتكارية.