في الخامس من شهر حزيران الماضي، قطعت كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر علاقاتها مع قطر بدعوى "محاربة الإرهاب"، الأمر الذي تسبّب بأزمات واجتماعية واقتصادية في منطقة الخليج، حيث كتبت وكالة الأنباء الدولية الأميركية المتخصصة بالأخبار الاقتصادية "Bloomberg" أن تخلي السعودية عن قطر ليس وليد اللحظة، بل بدأ منذ عام 1995، نتيجة نزاع طويل على الغاز الطبيعي، بما أن الدوحة أكبر مصدّر له في العالم، ووفقاً لـ Bloomberg فإن نقمة المملكة بدأت على شبه الجزيرة الصحراوية الصغيرة بعد تصدير أول شحنة من الغاز الطبيعي من أكبر خزان غاز في العالم (حقل الشمال البحري، الذي يحوي تقريبا معظم الغاز القطري)، ويمثل 20% من احتياط الغاز العالمي، والذي تتقاسمه مع إيران، المنافس المكروه من قبل السعودية؛ وبعد أن زاد في الآونة الأخيرة، الطلب على الغاز الطبيعي لإنتاج الكهرباء والطاقة في دول الخليج، فتعيّن عليها استيراد الغاز الطبيعي، بدلاً من استخراجه، وذلك نظراً لصعوبة الأمر والكلفة الباهظة للتنقيب عنه، وهذه المستجدات صبّت في مصلحة قطر لأن غازها يعتبر الأقل كلفة للاستخراج في العالم.
تمد قطر الإمارات العربية المتحدة بنحو ملياري قدم مكعب من الغاز يومياً بسعر رخيص، ومعظم تلك الكمية تلبي نحو 30% من حاجات الإمارات الفعلية من الطاقة؛ ويعدّ اقتصاد دولتي الإمارات وقطر الأقوى خليجياً وعربياً، ويحقق نسب نمو هي الأعلى عالمياً؛ بسبب التنوع وارتفاع نسبة التنافسية، إذ أحرزت هاتان الدولتان الخليجيتان تقدماً كبيراً في مؤشر الحرية الاقتصادية لعام 2017 الذي يضم 180 دولة، الصادر عن مؤسسة (The Heritage Foundation) لتصبح الإمارات وقطر ضمن الـ30 الكبار عالمياً؛ دولة الإمارات تقدّمت في المؤشر من المركز 25 في 2016 إلى المركز 8 في 2017، الأمر الذي أهّلها لتحلّ في خانة الاقتصادات الأكثر حرية، في حين تقدمت دولة قطر 5 مراكز على المؤشر لتتقدم من المركز34 عالمياً في 2016 إلى المركز 29 في تصنيف 2017، وتنضم الى قائمة الـ30 الكبار عالمياً في الحرية الاقتصادية، ووفقاً لتصنيف شبكة CNN الأميركية لتوقعات الأداء الاقتصادي العالمي لعام 2016، وفي تقرير لصندوق النقد الدولي عن الاقتصاد القطري، صدر في نيسان الماضي، جاءت دولة قطر في المركز الثاني بمعدل نمو بلغ 7.1%، وقد نجحت قطر في أن تصبح الاقتصاد الأكثر تنافسية في العالم العربي مُتخطّية الإمارات، حسب تقرير التنافسية العالمي لعام 2016.
تقع مدينة دبي على الساحل الجنوبي الشرقي للخليج، وقد وضعت استثمارها في البنية التحتية للتغلب على قلة مواردها الطبيعية، فأصبحت مركزاً عالمياً للأعمال والتجارة والسياحة، وتلعب الموانئ المدعّمة بمنشآت لوجيستية هائلة إلى جانب المنطقة الحرة دورًا محوريّاً في اقتصاد إمارة دبي بشكل خاص، والإمارات بشكل عام.
بين ميناء جبل علي وميناء حمد يبلغ عدد الموانئ التي تعمل في دول مجلس التعاون الخليجي ما يقرب من 37 ميناء، ولكن مع ذلك، فإن أكثر من ثلث الطاقة الاستيعابية تنحصر في ميناء جبل علي في دبي لوحده، وحوالى 95% في 10 موانئ خليجية فقط، ويعتبر ميناء جبل علي في دبي أكبر ميناء بحري في منطقة الشرق الأوسط والتاسع عالميّاً، ويمكن الإشارة هنا إلى أن ميناء جبل علي والمنطقة الحرة يسهمان بنحو ربع الناتج المحلي لدبي، لكن هذا الوضع المهيمن لميناء جبل علي في دبي قد يتزعزع في المديين المتوسط والطويل نتيجة المنافسة بين موانئ المنطقة، وتأتي هذه المنافسة بالدرجة الأولى من ميناء حمد الدولي حيث يحتل حاليّاً المرتبة الثامنة خليجياً من حيث الطاقة الاستيعابية لمناولة الحاويات النمطية، لكن تصنيف الميناء قد يصعد بقوة إلى المركز الثاني أو الثالث (يعتمد ذلك على زيادة الطاقة الاستيعابية لميناء الملك عبد الله في السعودية) خلال 3-4 سنوات المقبلة، بعد اكتمال المرحلة الثانية وارتفاع طاقته الاستيعابية إلى نحو 7.5 ملايين حاوية، هذا الوضع في حال حصوله، من المتوقع أن يعيد ترتيب خريطة الملاحة في الشرق الأوسط، وقد يؤسِّس مستقبلًا لاشتعال منافسة قوية بين موانئ دول الخليج.
يعتقد العديد من المحللين الاقتصاديين والسياسيين أن ميناء غوادر في باكستان هو دبي أخرى ناشئة على خريطة العالم، والأمر المقلق هنا هو أنَّ القوة الاقتصادية تعني تهديد التأثير الاستراتيجي لدبي في المنطقة، وقد تسبّبت مؤخراً هذه القضية المثيرة للجدل بحربٍ اقتصادية صامتة في خليج عمان بين مجموعتين من البلدان؛ هم باكستان والصين وقطر من جانب، والهند والإمارات العربية المتحدة من جانب آخر، حيث يعدّ ميناء غوادر منافساً خطيراً لدبي، كما يتميز الميناء بموقع استراتيجي يمنح الصين ووسط آسيا إمكانية الوصول إلى منطقة الخليج والشرق الأوسط، ولا ريب أنه سوف يصبح البوابة الرئيسية البحرية لآسيا الوسطى، وسيسهل بالتأكيد إرسال المنتجات من شينغيانغ الصينية ودول آسيا الوسطى إلى مناطق أخرى من العالم، حيث من المزمع أن تنقل حمولات السفن الراسية في ميناء غوادر شمالاً على امتداد باكستان الجغرافي لتصل من هناك إلى الصين، ما سيوفر وقتاً أقصر بكثير من إبحار تلك السفن في المحيط الهندي قبل أن تصل إلى موانئ الصين البعيدة في هونغ كونغ وماكاو وغيرهما، ولكن هذا الطريق يعوقه مطب سياسي مخيف إلا وهو إقليم كشمير المتنازع عليه بين باكستان والهند التي ارتأت الإمارات أن توطد علاقتها بها مؤخراً علها تعرقل المطامح الباكستانية باستثمار قضية كشمير الأزلية بين البلدين، أضف إلى ذلك المساعي الإيرانية الوليدة لبناء ميناء عملاق على سواحلها المطلة على بحر العرب ويدعى ميناء تشابهار والذي لا يبعد عن ميناء غوادر الباكستاني سوى 160كم فقط، الأر الذي سيشعل منافسة حادة بين البلدين المتجاورين، إلا إذا أثرت السياسة وجمعتهما بمصلحة واحدة ألا وهي إلحاق الضرر بالإمارات وموانئها، الأمر الذي يتطلب تنزل أحدهما طموحاته الاقتصادية لصالح الآخر، وهو التصرف المتوقع من قبل إيران التي ستغض الطرف عن فكرة ميناء تشابهار وتدعم بالمقابل ميناء غوادر، وكل هذا المستجدات يدركها المسؤولون القطريون على أفضل وجه، ويشعرون بأهمية الميناء الباكستاني كمتغير كبير في لعبة المنطقة، ولهذا يعتزمون استثمار 15% من قيمة "الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني"، وذلك عبر مجموعة من مشاريع البنية التحتية التي هي قيد الإنشاء حالياً في جميع أنحاء باكستان، الأمر الذي سيزيد الضغط على دبي والإمارات، ويعمق الهوة بين قطر والإمارات التي ستستعين مضطرة بحليفتها السعودية للضغط على حليفتهما، حتى الآن على الأقل باكستان، للتراجع.
أعلن وزير النقل السوداني مكاوي عوض أمام جلسة لبرلمان بلاده مؤخراً، أن الخرطوم اتفقت مع قطر على إنشاء ميناء في مدينة "بورتسودان" ليكون أكبر ميناء للحاويات على سواحل البحر الأحمر، وبناءً عليه يمكن وصف الخطوة القطرية لإنشاء أكبر ميناء للحاويات بورتسودان، بأنها تشكل تحدياً كبيراً للإمارات، فالميناء السوداني الجديد في حال إنشائه سيكون مركزاً اقتصادياً حيوياً مهماً يؤثر على ميناء "جبل علي" في دبي، وبقية الموانئ التي تسيطر عليها أبو ظبي في القرن الأفريقي، وسيعزز من نفوذ قطر على ساحل البحر الأحمر، ما يعني تحقيق تفوق سياسي جديد للدوحة على حساب الدول المحاصرة لها والتي لطالما سعت الى عزلها عن العالم، هنا لابد من الإشارة إلى بعض الأمور المهمة وهي أن حجم الاستثمارات القطرية في السودان بلغ أكثر من 3.8 مليارات دولار، وذلك بحسب وزارة الاستثمار السودانية، أضف إلى ما تقدم التصريح الأخير الذي أطلقه الرئيس السوداني عمر البشير مؤخراً حينما قال إن لا طائلة من معاداة إيران والحرب ضدها هذا بالإضافة لزيارته الأخيرة إلى روسيا، الأمر الذي فسر على إنه ابتعاد عن المعسكر السعودي واقتراب من القطري.
يتضح مما تقدم إن القطريين يريدون إحكام السيطرة على طرفي بحر العرب وسواحل البحر الأحمر الجنوبية، وتحديداً مضيق باب المندب من الغرب وموانئ باكستان وإيران من الشرق، ولذلك ستسعين بحلفاء طهران، حليفتها الجديدة، وهم الحوثيون الذين هددوا سابقاً بإغلاق المضيق بوجه الملاحة العالمية أضف إلى ذلك ما أسلفنا ذكره عن موانئ بورتسودان وتشابهار وغودار، ما يعني إحكام الطوق حول الطريق الذي تسلكه سفن الإمارات ما يعني خنق دبي اقتصادياً وتحجيم أبو ظبي سياسياً.