يُنظر إلى التركمان في الدول العربية على أنهم مظهر من مظاهر العثمانية الجديدة في السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، والتي تهدف إلى إعادة بسط نفوذ أنقرة في المنطقة، مستفيدة بذلك من الروابط بين الإسلاميين، ومحافظةً على الروابط القومية عبر الدفاع عن الأقليات التركية في الخارج، فكانت المشاهد التي نقلتها كاميرات القنوات الفضائية للاحتفالات التي تلت دخول القوات الاتحادية إلى مدينة كركوك صادمة للكرد تحديداً، حينما شاهدوا بأم أعينهم كيف أزيلت أعلام كردستان وشطبت كل الشعارات التي تتغنى بكركوك "قلب كردستان" كما يحلو للكرد تلقيبها، واستبدلت بالأعلام الزرقاء التي يتوسطها الهلال الأبيض، تلاها بعد ذلك بيومين تعقيب وُصف بالناري للرئيس التركي رجب طيب أردوغان على دخول الجيش العراقي إلى كركوك بالقول: إن المدينة كانت حتى منتصف القرن الماضي ذات غالبية تركمانية، واسترسل مخاطباً كرد العراق بصورة غير مباشرة: لقد ظنوا إننا سنتخلى عن التركمان في العراق.
وتماشياً مع هذا الصدد تحدثت مصادر سياسية رفيعة المستوى مؤخراً في العاصمة بغداد، عن استراتيجية تركية إيرانية جديدة، هدفها توحيد تركمان العراق على أساس قومي وتجاوز الانتماءات المذهبية، وذلك لتحويلهم إلى "ندٍ للكرد" في محافظة كركوك والمناطق المتنازع عليها، خاصة بعد الواقع الجديد الذي فرضته عملية إعادة القانون بعد السادس عشر من تشرين الأول، وهي الاستراتيجية التي اعتبرها البعض محاولة لإعادة تفخيخ تلك المناطق تمهيداً لمرحلة أخرى مستقبلاً.
المصادر تلك ترى بهذه الاستراتيجية محاولة جدية لإحياء ما سموه بـ"القوس التركماني" في كركوك والمناطق المتنازع عليها، ما يعني محيط المناطق الكردية عموماً، والتي تبدأ من تلعفر وتصل إلى خانقين، وذلك لعدة أسباب منها، محاصرة المناطق الكردية التي لم تعد بنظر جيران العراق مناطق ذات ثقة دولية، خاصة بعد الاستفتاء للانفصال عن العراق، ومنها أيضاً خلق حالة من اليأس لدى كرد العراق من فرض نفوذهم على المناطق المتنازع عليها وتقليص أحلامهم الانفصالية بمساحات شاسعة إلى حدود الخط الأزرق، الذي رسمته لهم الأمم المتحدة عام 1991، هذا بالإضافة إلى تأمين حقول النفط التي ستقع في مناطق النفوذ التركمانية الجديدة للاطمئنان على ديمومة الصادرات النفطية من تلك الحقول إلى العالم، إذ أن تركيا تفضل على ما يبدو أن تتذوق نفط العراق بنكهة تركمانية وإيران كذلك، وهذا كله سيؤدي بالنهاية إلى خلق حالة جديدة من توازن القوى في تلك المناطق.
العوامل التي ستعتمد عليها تركيا وإيران لتحقيق هذا الهدف كثيرة ومتعددة، منها الانتماءان القومي والمذهبي اللذان يسيطران على تركمان العراق، فالولاء التركماني للدولة العثمانية ووريثتها تركيا الأتاتوركية لايزال مسيطراً على الأجيال المتعاقبة لهم، وهو يسير بخط مواز للولاءات المذهبية لهم وإن انقسموا بين الشيعة والسنة، لكنهم يعتبرون موالون ممتازون لمذاهبهم الدينية، وهنا تحديداً تتوقع تلك المصادر نوعاً من التنافس بين طهران وأنقرة لاستمالة أفئدة التركمان لصالحها، فتركيا ستعزف على وتر القومية وإيران ستعزف على وتر المذهبية، خاصة وإن غالبية تركمان العراق يعتنقون المذهب الشيعي، وهي نقطة تصب في صالح الجمهورية الإسلامية وستستثمرها أفضل استثمار على حساب تركيا.
العوامل الأخرى التي ستمهد لهذه الاستراتيجية، بحسب المطلعين، هي الامتعاض المتزايد لدى تركمان العراق تجاه ما يعتبرونه تجبراً كردياً عليهم، منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، ما ولد لديهم رد فعل عنيف نوعاً ما تجاه السلطة الكردية، وهو الأمر الذي ترجمته بعض الهجمات الأخيرة في مدينة طوز خورماتو، جنوب كركوك، على دور ودكاكين كردية، اتهم الحشد التركماني التابع للحشد الشعبي بالتخطيط لها وتنفيذها؛ التركمان أيضاً يعتبرون كركوك مدينة تركمانية بامتياز، اغتصبها العرب منهم ثم الكرد، ويذهبون أبعد من ذلك حينما يصنفون أربيل على أنها كانت يوماً ما ذات غالبية تركمانية.
تنفيذ هذه الاستراتيجية، من وجهة نظر إيران، يتطلب تعاوناً تركمانياً، إذ يراد لهم أن يكونوا قوساً استراتيجياً في الهلال الشيعي الممتد من طهران إلى بيروت، فمناطق التركمان ستكون ممراً رئيسياً لمشروع الطريق نحو المياه الدافئة، فمدينة تلعفر التركمانية، على سبيل المثال، ذات الغالبية الشيعية، ستكون نقطة نفوذ إيراني في المثلث العراقي التركي السوري ومحطة استراحة وانطلاقة مفصلية على الطريق نحو سورياً، وبذلك ستتجنب إيران الوصل إلى حليفتها سوريا عبر أراض العرب السنة في الأنبار ونينوى، وذلك يتطلب المزيد من الترحيب بأبناء التركمان في صفوف الحشد الشعبي الذي يحظى بدعم شيعة التركمان، وليس سنتهم حتى الآن على الأقل، والضغط على بغداد لمنح المزيد من التواجد السياسي للتركمان، وهو ما تمثل بالدعوة الأخيرة التي أطلقها بعض ساسة التركمان للظفر برئاسة الجمهورية.
أما من وجهة نظر تركيا فتنفيذ هذه المهمة يعتمد على معادلة معقدة نوعاً ما، وهي تعظيم دور التركمان في العراق، ولكن دون أن يقعوا تحت سيطرة إيران تماماً، وذلك لكي تضمن تركيا حدوداً برية مفتوحة وآمنة مع العراق تضمن لها استمرارية التبادل التجاري واستيراد النفط، وبما أن "كل الطرق تؤدي إلى روماً"، فأن المراد التركي هذا سيمر حتماً عبر مدينة تلعفر، وهنا مربط الفرس، حيث ستصطدم حينها الرؤيتان التركية والإيرانية في هذه المدينة، وحينها ستتقاطع المصالح لا محالة بين البلدين وإن كانت المصلحة قد جمعتهما لتنفيذ هذه الاستراتيجية، فتركيا تريد تلعفر كممر لها نحو الجنوب، وإيران تريد من المدينة أن تكون كممر لها نحو الغرب.
الاستفتاء الكُردي أسهم، بصورة أو بأخرى، في إحياء الرغبة التي تتعلق بتنشيط فكرة "القوس التركماني"، فبعد أن كان الكرد يتسابقون لتقديم الضمانات للتركمان حيال مستقبلهم في دولة كردستان الوليدة، ومحاولات كسب أصواتهم خاصة في كركوك، وتنوع تلك المحاولات الحثيثة بين الترغيب والترهيب كما يقول التركمان، ذهب تركمان أربيل، الممثلون في برلمان الإقليم، مجبرين على ما يبدو لتأييد فكرة الاستفتاء، بينما توزعت آراء تركمان كركوك بين الرفض القاطع، كما صرحت بذلك الجبهة التركمانية، وبين التزام الصمت وانتظار التطورات المترتبة على ذلك.
التطور الجديد هذا أتى متزامناً مع استقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وفداً من تركمان العراق، وللمرة الأولى بحضور شخصيات سنية وشيعية من المكون التركماني، والذي بحث مستقبل الوجود التركماني في العراق، حيث استفسر اردوغان من الحاضرين عن حقيقة تطوع آلاف الشبان من التركمان في الحشد الشعبي، وما إذا كان الدافع لذلك مذهبيا، وتلقى إجابة مفادها أن أولئك المتطوعين ينقسمون على أتباع المذهبين، بعدما كان غالبيتهم من المذهب الشيعي، ولا أحد يعلم ما إذا كانت هذه الإجابة مريحة لأردوغان أو مزعجة.
أحد القادة التركمان الذين حضروا ذلك اللقاء مع أردوغان قال فيما بعد، إن أعضاء الوفد انقسموا بين مؤيد ومعارض لفكرة تقوية التركمان على حساب الكرد في المناطق المتنازع عليها، وإن بعضهم أبلغوا الرئيس التركي بأن وجود حزب العمال الكُردستاني، في شمال العراق لا يمكن مواجهته إلا بقوة تركمانية مسلحة ورسمية.
التركمان الآن يتعرضون لضغوطات تركية وإيرانية كبيرة لتوحيد صفوفهم مستقبلاً، بعد أن كانوا منقسمين بين الشيعة والسنة خلال مرحلة العنف الطائفي، وبنيت تحالفات القوى السياسية التي تمثلهم على هذا الأساس، وباتوا يجدون أنفسهم اليوم مضطرين لتجاوز خلافات الماضي طمعاً بمستقبل ذو مكاسب عدة على حساب غريمهم التقليدي في المنطقة الكرد، ولكن بغداد، المتهمة بتهميش السنة وإقصائهم، والممتعضة مما تسميه التفرعن الكردي، قد لا تبدو مستعدة لتقديم دعم لا محدود للتركمان، خاصة السنة منهم، كي لا تجد نفسها أمام محاولة إنفصالية جديدة.
الحكومة العراقية تدرك جيداً أن التركمان في العراق يتركزون في كركوك ونينوى، وهما المحافظتان اللتان تعتبرهما تركيا تابعتان لها وستعودان إلى أحضانها عاجلاً أم آجلاً، ولذلك ستحسب بغداد ألف حساب قبل تعظيم شوكة التركمان مقابل الكرد في شمال العراق، كي لا تلعب دور المتفرج يوماً ما على انفصال هاتين المحافظتين عنها والتحاقهما بأنقرة وبدعم تركي منقطع النظير، وحينها لن ينفع الندم.