بات معلوماً لدى الجميع أن الحرب قد وضعت أوزارها في الموصل، لصالح القوات الأمنية المشتركة مؤخراً، والامر ذاته وفي عموم البلاد بعد أن سيطرت القوات الأمنية مؤخراً على القائم في غرب الأنبار ما يمهد لإعلان القضاء نهائياً على تنظيم داعش.
أسئلة كثيرة أُثيرت حينها ولا تزال عن أسباب سقوط الموصل سياسياً وعسكرياً، ومن ثَـمّ صلاح الدين والأنبار بيد التنظيم، إذْ ألقى البعض باللائمة على ممارسة سياسة التهميش والإهمال المتعمدة تجاه أهل السنة في نينوى وصلاح الدين والأنبار من قبل الحكومات المركزية المتعاقبة في بغداد منذ عام (2003)، ونقص الخدمات والاستثمار في البنية التحتية والفساد وسوء الإدارة، واستمرار الاعتقالات العشوائية، والنظر إلى الضباط والقيادات العسكرية السنية السابقة من ذوي الخبرة العسكرية العتيدة نظرة الخطر على السلطة الشيعية، لذلك كان إبعادهم عن تولي مناصب قيادية في الجيش خيارا صائبا في نظرها أنذاك ولا زالت تدافع عنه حتى الآن.
وازدادت الأمور سوءاً إبان فترة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي تولّى رئاسة الحكومة لولايتين متتاليتين، ما ولّد استياءً وعداءً مضمراً تجاه السلطة الحاكمة لدى أهالي تلك المناطق، الأمر الذي خلق بيئة حاضنة لتنظيم داعش مكّـنته من فرض السيطرة على الموصل ثاني أكبر مدن العراق في العاشر من حزيران عام 2014، عسى أن يستبشروا خيرا بقدوم التنظيم؛ بينما يذهب البعض الآخر إلى أن اللوم– على الرغم مما سبق- يقع بالدرجة الأساس على انسحاب 4 فرق عسكرية من قوات الجيش العراقي كانت متواجدة هناك، وسلّمت الموصل على طبق من ذهب لداعش، والتي أثبتت عدم كفاءتها، رغم تجهيزها بأحدث أنواع الأسلحة العسكرية الأميركية والروسية، حيث شكّل السلاح الروسي النسبة الأعظم من تسليح الجيش العراقي إبان ولايتي رئيس الوزراء (القائد العام للقوات المسلحة) السابق نوري المالكي بموجب عقود شراء قُـدّرت بمليارات الدولارات، شابتها بعض شبهات الفساد.
ومنهم يُعلّل السقوط بسوء منظومة التنسيق والتواصل والترابط بين القيادات العسكرية والجنود، هذا بالإضافة إلى اتهام أطراف باعتماد نوري المالكي الكلي على قيادة عمليات نينوى، التي لم تكن تـُطلعه مجلس المحافظة على الأوضاع الأمنية، وأنه كان ينصت إلى تقارير استخباراتية ولا ينصت إلى القيادات المدنية، في المحافظة.
كل هذه الأسباب مجتمعة لا تُغنينا عن الخروج برأي آخر لا يقل أهمية عن الأسباب السابقة، يدور فلكه حول المغزى من سقوط الموصل والمناطق الغربية الأخرى، والدرس المستنبط منه، وطرح سؤال لطالما غاب عن أذهان الكثير منّا ألا وهو: ماذا لو كان سقوط الموصل مقصوداً مدروساً ومخطط له مسبقاً؟!.
الظروف العسكرية المحيطة بسقوط الموصل والمناطق الغربية الأخرى بيد تنظيم داعش، والمتمثلة بانسحاب أربع فرق عسكرية مسلحة بأحدث المعدات العسكرية من المدنية أمام ثـُلّة من مقاتلي تنظيم داعش، وعدم أخذ نوري المالكي تحذيرات قيادات عسكرية ومدنية، من تنامي ظهور أطراف متطرفة ومتشددة في الموصل وتداعياتها، على محمل الجدّ أو تجاهلها، خصوصا وأن صحفاً دولية كصحيفة (الاندبندنت) البريطانية أشارت إلى تجاهل رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي لتحذيرات تؤكد نية داعش الهجوم على مدينة الموصل، وأنه تجاهل 12 تحذيرا أرسلها قائد استخبارات نينوى اللواء احمد الزركاني الى مكتبه، تكشف عن حصول داعش على أسلحة ومعدات للهجوم على المدينة، كما تجاهل معلومات تفيد بوجود 6 مراكز لتدريب عناصر تنظيم داعش خارج المدينة، حيث لم يتم السماح لطائرات القوة الجوية بقصفها على الرغم من رصدها، وأن المالكي فضّل سقوط الموصل بيد تنظيم داعش وليس بيد مجاميع آخرى على صلة بحزب البعث بحسب الصحيفة نفسها، وإقرار قائد القوات البرية في الجيش العراقي السابق علي غيدان، خلال تحقيقات أُجريت معه، بأنهم انسحبوا من محافظة نينوى بأمر من القائد العام للقوات المسلحة آنذاك نوري المالكي.. كل هذه الظروف والمعطيات تحيلنا إلى القول: إن سقوط المناطق السنية كان مقصوداً مدروساً محبوكا له بدقة، غَفِل عنه كبار القادة العسكريين، وخفي مغزاه عن الكثيرين، لتحقيق غايات وأجندات سياسية أعلى، أبرز مؤدّاها عدم رضا أهل هذه المناطق السنية بحكم السلطة الشيعية في البلاد، شاؤوا أم أبوا ذلك، بعد أن جرّبوا وذاقوا الأمرّين: مرارة العيش في ظل حكم تنظيم داعش لمدة 3 سنوات، وويلات الحرب لاستعادة مناطقهم، وما جرّتها عليهم من قتل ودمار وخراب وهلاك، وعوامل نفسية واجتماعية وعمرانية ستمتد آثارها لسنين طوال، وأن السلطة الشيعية الحاكمة بخوضها حرب الاستعادة، هي الوحيدة القادرة على حماية أمنكم وأرضكم وعرضكم في هذه البلاد وليس الأطراف والأحزاب السنية، وتلقين أهل هذه المناطق وقياداتها وزعماءها درساً يجعلهم يفكرون ألف مرة قبل أن يتجرؤوا مرة أخرى على التمرد والثورة على السلطة، أذا ما أخذنا بالحسبان هنا، أن هناك من اعتبر سقوط الموصل والمناطق الغربية الأخرى بيد التنظيم وتعاطف البعض من أهلها معه ثورةً للعشائر. ومنها أيضا اتخاذ سيطرة تنظيم داعش على هذه المناطق دافعاً لتشكيل قوات باسم الحشد الشعبي لمواجهة خطره الطائفي والجغرافي، واعتبارها بعد تشريع قانون لها، قوات نظامية وجزءاً من القوات المسلحة العراقية، الأمر الذي جعل السلطة الشيعية الحاكمة أقوى من السابق عشر مرات.
هذا ناهيك عن تدخل إيران القوي، بحجة حماية الرموز والأماكن الدينية المقدسة، ودعم القوات الأمنية عسكريا ولوجستيا في حربها لاستعادة مدنها، وبسط نفوذها في المنطقة تحقيقا لإنشاء ما سُمّي بالهلال (النفوذ) الشيعي، الذي يصل طهران بلبنان.
وإلاّ ألم يكن بإمكان القائد العام للقوات المسلحة آنذاك نوري المالكي أن يأمر القوات المتواجدة هناك بالتصدي للهجوم ولو لأيام أو ساعات إلى أن يصل الدعم العسكري الداخلي، وأن يستغل هذا الوقت لطلب الدعم من حلفائه الإقليميين والدوليين أبرزهم أمريكا وإيران التي لطالما تفاخر بعلاقات العراق الوطيدة والمتينة معهما؟.. ألم تكن الخسائر المادية والبشرية بالتصدي أو شنّ هجمات مرتّدة على تنظيم داعش قبل أن تقوى شوكته ويكثر أتباعه ويتوسع نفوذه، أهون وأقلّ بكثير من حرب الاستعادة التي كلّفت آلاف الارواح ومليارات الدولارات؟.. ألم يكن بالإمكان تفادي كل هذا؟؟.. نعم كان بالإمكان إلاّ إذا كانت الغاية تُبرّر الوسيلة طبعاً.
وبما أن الأمور تقاس بخواتيمها، فلا بد من لفت الانتباه هنا إلى أن النتيجة التي خرج بها العراق من هذه المعمعة هي حتمية إعادة النظر بهيكلية المنظومة الوطنية الدفاعية بكل مفاصلها، الاتحادية منها والمحلية، وحتى المرتبطة منها بإقليم كردستان، خاصة بعد الزخم الذي تمتعت به مؤخراً مدعومة بالانتصارات التي حققتها ضد التنظيم، وهو ذات الأمر الذي شدد عليه بريت ماكغورك، مبعوث دونالد ترامب إلى التحالف الدولي ضد داعش، حينما صرح قبل أيام قليلة بالقول: أن التنظيم خسر ما نسبته 96% من أراضي نفوذه في العراق وسوريا؛ أضف إلى ما تقدم أن العراق لن يكون بمأمن عن تكرار سيناريو داعش إذا استمرت ذات السياسات التهميشية السابقة، والتي ولدت ردود أفعال لم تكن بالحسبان لدى شريحة شعبية ليست بالقليلة، إلا إذا كان لدول الجوار رأي آخر بذلك، ولم ترد إيران بلوغ البحر الأبيض ولم ترد تركيا والسعودية بلوغ دار السلام، وهم إخوة يوسف المتهمون بإلقائه في جب داعش لسنين طوال.