ملخّص: في حين أن القانون الانتخابي الجديد في العراق قد حقق بعض النجاحات، فإن الإصلاحات التي حاول تحقيقها لن تؤتي ثمارها بالكامل إلا إذا اقتنع الناخبون العراقيون بأن الانتخابات قادرة على إحداث فرق ملموس في حياتهم.
وصلت إلى كردستان العراق قادمًا من إيطاليا في ٢٣ أيلول/سبتمبر. وكان الهدوء يسود مدينة أربيل، عاصمة حكومة إقليم كردستان. وفي ما عدا ملصقات المرشحين المعلّقة على الأعمدة والجدران، لم تظهر أي علامات ملحوظة أخرى للانتخابات البرلمانية العراقية التي جرت في أوائل تشرين الأول/أكتوبر في المدينة. ففي مراحلها الأخيرة، انتعشت الحملة الانتخابية وظلت مدنيّة بشكل ملحوظ، وليس في كردستان فحسب، بل أيضًا في سائر العراق. ولكن في الشوارع، كانت اللامبالاة والمقاطعة وعدم الحضور للتصويت، وسؤال "لماذا يجب أن أصوّت في الانتخابات"، كلمات طنّانة اتّسمت فيها آراء العراقيين في الانتخابات.
فور خروجي من الطائرة، خضتُ محادثة مع سائق أجرة مسنّ. وعندما سألته عمّا إذا كان سيصوت في الانتخابات، أجاب بالنفي. وعندما سألته عن السبب، أوضح قائلاً: "لقد صوّت في جميع الانتخابات السابقة، ولم يتغير شيء في حياتي". بالنسبة إليه، كان التغيير الحقيقي يعني فرص عمل ومدخول أفضل. واكتشفتُ لاحقًا من خلال المزيد من المحادثات أن هذا التوجّه يكاد يكون ظاهرة عامة في المناطق التي زرتها. وخلال الدورة الانتخابية في العراق، تزداد صعوبة الحياة بالنسبة إلى غالبية السكان.
ولكنّ هذه الدورة الانتخابية تختلف عن الانتخابات السابقة في نواحٍ كثيرة. قبل كل شيء، حيث جرت الانتخابات بالفعل، مع عدد قليل من البلاغات التي تفيد بحصول تزوير. وقد يكون العراق من بين الدول القليلة، إن لم يكن البلد الوحيد في العالم العربي الذي يشهد حاليًا انتقالاً سلميًا للسلطة. ومع ذلك، قد لا يدوم هذا الظرف طويلاً إذا استمر الوضع الراهن على حاله. فبعد مطالب المحتجين في تشرين الأول/أكتوبر، أقرّ البرلمان العراقي قانونًا انتخابيًا جديدًا، ولكن محاولاته الإصلاحية أدّت إلى نتائج متفاوتة، ولن تتمكن من تحقيق تغيرات تحويلية في الحكومة عن حق إلاّ إذا تغيّرت وجهات النظر بشأن الانتخابات.
إحباط ومقاطعة
كانت نسبة المشاركة متدنية إلى أقل المستويات في تاريخها، غير أنها لم تكن أقل بكثير من انتخابات عام ٢٠١٨. ولعل قلّة الحماس قد ساهمت في جعل الحملة أقل عنفًا وأكثر تحضرا، ولكنّ ذلك علامة واضحة على الغضب وعدم الرضا والإحباط، وقبل كل شيء انعدام الثقة في النخب الحاكمة والنظام الحالي. ويبدو اليوم أن الأغلبية المستاءة عازمة على سحب تأييدها لهذا النظام، بينما يمكن للأحزاب أن تحشد فقط أعضاءها الموالين - الذين يتألفون أساسًا من أولئك الذين يتقاضون رواتب حزبية. وليس من المستغرب أن يكون عدد الذين أدلوا بأصواتهم والذين يتقاضون رواتبهم من القطاع العام متساوٍ فعليًا، أي حوالي ٩ ملايين. وهذا يجعل الانتخابات والديمقراطية العراقية من أغلى المشاريع وأكثرها فسادًا في العالم.
بالنسبة إلى عدد كبير من العراقيين، ساهمت عوامل مثل الفساد المنهجي ومصلحة السياسيين الذاتية واحتكار النخب للحكومة والاقتصاد العراقي المتعثر وعدم توفر مساحة كافية للوافدين الجدد سياسيًا واقتصاديًا، في ارتفاع نسبة العزوف عن العملية الانتخابية.
والحالة مشابهة في كردستان إلى حد ما، مع عدد مقاطي الانتخابات الهائل، الأمر الذي أدى إلى زيادة مقاعد "الحزب الديمقراطي الكردستاني" والجيل الجديد، على الرغم من الانخفاض الملحوظ في عدد الأصوات بالمقارنة مع الانتخابات السابقة. وكانت "حركة التغيير" (كوران) الخاسرة الكبرى في الانتخابات، حيث فشلت الحركة، التي بدأت كحزب معارض للأحزاب السياسية الراسخة في المنطقة، في الحصول على أي مقعد. وهذه رسالة واضحة من ناخبيها بعد تحولها من حزب معارض إلى حزب موال للسلطة.
إن نسبة المشاركة المنخفضة، لا سيّما في المناطق الحضرية، تسلّط الضوء على شرعية الحكومة، فقد كانت أزمة الشرعية هذه السبب الرئيسي وراء الانتخابات المبكرة وقانون الانتخابات الجديد نفسه، وهما مطلبين أساسيين من مطالب متظاهري 'تشرين'/أكتوبر في عام ٢٠١٩. ومن المفارقات أنه بدلاً من أن تقوم الانتخابات بتجديد شرعية الحكومة، كان لها تأثير معاكس على الأرجح.
مشاركة المرأة مقابل حقوق المرأة
لنأخذ، على سبيل المثال، شرط قانون الانتخابات الجديد الذي ينص بأن يكون ربع أعضاء البرلمان من النساء. لقد وسّع القانون عدد الدوائر الانتخابية من ١٨ إلى ٨٣، وهو أيضًا عدد مقاعد الكوتا النسائية، ممّا يعني أن كل دائرة انتخابية مطالبة بإيصال امرأة واحدة على الأقل إلى البرلمان. ومع تجاوز النساء في البرلمان هذه الكوتا، أدى القانون الجديد إلى زيادة عدد البرلمانيات من الناحية الكمية، ولكن ليس بالضرورة من الناحية النوعية. فمن المتوقع أن تأتي غالبية البرلمانيات من الأحزاب التقليدية القائمة – فربما تضرّ هذه الأحزاب بالنساء بدلا من أن تمثلهم وتتبنى قضاياهم.
على سبيل المثال، يُعتبر العنف الأسري مشكلة رئيسية في العراق - فهو مسموح به قانونًا باستثناء داخل إقليم كردستان، الذي أقرّ قانونًا ضد العنف الأسري. فتمنح المادة ٤١ (١) من القانون العراقي للزوج الحق القانوني في "تأديب" زوجته أو والديه أو أطفاله "في حدود ما هو مقرر شرعًا أو قانونًا أو عرفًا". تجدر الإشارة إلى أن هذا القانون لم يكن موضع خلاف خلال الانتخابات، ولم تعارضه أي امرأة حتى الآن. وللمفارقة، في قضية أخرى تخص المرأة، دعت مرشحة من حزب إسلامي في كردستان العراق إلى تعدد الزوجات خلال الحملة.
مسألة السياسيين المستقلين
يهدف القانون الجديد أيضًا إلى تقديم أسلوب تمثيل مماثلاً للمندوب، في محاولة لتشجيع النواب على البحث عن مصلحة ناخبيهم والاستجابة بشكل أكبر لاحتياجاتهم. وبموجب القواعد الجديدة، يمكن للمرشحين جمع أصوات الناخبين في دائرة انتخابية أصغر، الأمر الذي يتطلب ميزانية أصغر. وبالتالي، كان القانون الجديد يأمل في تفكيك هيمنة النخب الحزبية الكبرى على نظام الحكم.
من الصعب تحقيق مثل هذا الهدف من الناحية العملية، لا سيّما في الانتخابات الأولى الخاضعة لهذا النظام. فقد تبنّت الأحزاب الكبرى أجهزة إعلامية وعدد كبير من نُظم المحسوبية وجماعات مسلّحة خاصة ودعم قوى إقليمية. وعلاوة على ذلك، لكي يحقق القانون الانتخابي الحالي هدفه، يجب أن يثق الناخبون بالسياسيين المستقلين. وهذا أمر صعب بشكل خاص لأن النائب المستقل غير المدعوم من قبل الأحزاب القائمة لا يشكّل سمة مشتركة في تاريخ السياسة العراقية. فعلى سبيل المثال، لم يتم انتخاب أي مرشح مستقل في الدوائر التي تشكل كردستان العراق. وعلى الرغم من أن هذا الاتجاه يبدو وكأنه تغيّر في صفوف الشباب الشيعة، فلا بدّ من تحركات مستمرة في العمليات الانتخابية تلو الأخرى لتقليص قبضة الأحزاب القائمة على البرلمان.
وسيتطلب هذا التغيير تحولاً في الذهنية بين العراقيين أنفسهم. فمن خلال المحادثات المختلفة، أدركتُ أن العديد من العراقيين يرون أنه حتى المستقلين "ليسوا مستقلين تمامًا، [و] أنهم ظلال القيادات الحزبية التقليدية الراسخة". ويجادل الكثيرون أيضًا بأنه في مشهد سياسي متقلب مثل العراق، سيتم سحق النائب المستقل حقًا. وهذه الآراء المترسّخة سلفًا هي جزء من إرث حكم الأنظمة القوية والسلطوية في البلاد.
فاز عدد قليل من المرشحين المستقلين بمقاعد نيابية، ولكن ما من شيء يضمن أنهم سيتمكنون من تنظيم تكتل ووضع جدول الأعمال - على الرغم من الجهود المبذولة لبناء الكتلة الاحتجاجية "تشرين"/أكتوبر. هذا وسيتردد المستقلون بشكل كبير وسيأخذون الحيطة والحذر في كل خطوة لتجنب فقدان الشرعية في الشارع، كونهم تعهدوا بأن يكونوا في المعارضة.
وما يزيد من تعقيد قضية المستقلين هو أن العراق لا يزال بلدًا يصوت على أسس عرقية، ولا يحظى المرشحون إلاّ بقدر ضئيل من الدعم من الجماعات التي تنتمي إلى طوائف أو أعراق مختلفة. وقد رسّخ القانون الحالي هذا السيناريو بشكل أكبر من خلال تكريس عدد أكبر من المحافظات، حيث لم يبقَ في العراق سوى عدد قليل جدًا من المناطق المحلية المتعددة الثقافات.
وبالإضافة إلى هذه الانقسامات الكبرى، فإن كل مجتمع – بدءًا من المجتمعات الصغيرة مثل اليزيديين ووصولاً إلى الأغلبية الشيعية في البلاد - هو في حد ذاته مجزأ بدرجة كبيرة. وتكمن أسباب عديدة وراء هذا التشرذم، ويمكن تصنيفها من محلية إلى إقليمية، فضلاً عن الوقائع التاريخية والأمنية. وتستغل القوى الإقليمية المحيطة بالعراق هذه الانقسامات والتشرزمات - على غرار السياسات الإمبريالية تجاه الأطراف.
وما يضاعف من التعقيدات أن هذا القانون الانتخابي الجديد، شأنه شأن العديد من القوانين الأخرى في العراق، لم يُنفّذ بالكامل. على سبيل المثال، وفقًا للقانون الجديد، لا يجوز أن تشارك الأحزاب السياسية التي لها صلات بالجماعات شبه العسكرية في الانتخابات. إلاّ أن الأحزاب التي ترتبط بالميليشيات لم تشارك فحسب، بل كانت هي الفائزة الرئيسية.
وبالمثل، في محاولة لتجنب التزوير الذي طغى على الانتخابات السابقة، أصبح نظام التصويت تقنيًا لدرجة أنه قلّص من فرص التصويت بشكل ملموس. فقد شهدت الآلاف من أجهزة التصويت التي تعمل بالمسح الضوئي فشلاً في التشغيل منذ اللحظة الافتتاحية عند الساعة ٧ صباحًا وحتى الساعة ١٠:٢٠ صباحًا، وتم برمجتها لتتوقف عن العمل عند الساعة ٦ مساءً. وقد أدت هذه المشاكل إلى تقليل وقت التصويت في العديد من المواقع إلى أقل من ٨ ساعات. كما طالب القانون الجديد الناخبين المحتملين بالتسجيل أكثر من مرة، ممّا ساهم في تقليل عدد المسجلين.
ومن أجل الفوز بمقعد نيابي وفقًا للقانون الجديد، يحتاج المرشحون إلى التنظيم وتمركز الناخبين، ما أدى إلى حصول عدد من الأحزاب السياسية ذات الأصوات الأعلى على مقاعد أقل والعكس صحيح. فقد حصد كل من "التيار الصدري" و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" أصوات أقل من الناحية العددية لكنهما حصلا على مقاعد أكثر: بفضل التنظيم والتمركز والمقاطعة.
انتخابات نزيهة
على الرغم من ذلك، حقق القانون الجديد بعض النجاحات. وبالأخص أن الانتخابات لم تشوبها عمليات تزوير كبيرة. فقد تم تنفيذها وفق نظام الفوز بأكثرية الأصوات ونظام الصوت الواحد غير القابل للتحويل. وقد ساهمت مجموعة من العوامل في جعل هذه الانتخابات مختلفة عن سابقتها في عام ٢٠١٨، وتشمل وضع قانون انتخابي جديد وصعوبات في التصويت وتزوير أقل. ومما لا شكّ فيه أن القانون الجديد أثّر على النتيجة، ولكن يتطلب الأمر عدد من الدورات الانتخابية لكي يستغل المواطنون هذه التغييرات ويستفيدون منها.
ومن أبرز ملامح هذه الانتخابات خسارة "المشاهير السياسيين" ورئيس البرلمان السابق والوزير السابق، والخسارة الكبيرة التي ألحقت بائتلاف رئيس الوزراء السابق العبادي.
في الماضي، كان القادة السياسيون ينتخبون أنفسهم ويجمعون أعدادًا هائلة من الأصوات. ولكن هذه الظاهرة لم تعد هي الحال، لأن القادة ليسوا واثقين من قدرتهم على جمع عدد كبير من الأصوات ضمن الدائرة الانتخابية الأصغر. بالإضافة إلى ذلك، فإن غضب الأغلبية تجاه النخب الحالية جعل الكثيرين يترددون في الترشح. ومع ذلك، فإن النتيجة غير المواتية للميليشيات الموالية لإيران قد تجعل الوضع أكثر عنفًا. فالجماعات المسلحة تعتمد على أدوات أخرى خارج التمثيل السياسي للحفاظ على مواقعها، وقبل كل شيء لتحقيق مكاسب اقتصادية.
أظهرت نتائج الانتخابات أن الشعب العراقي في غالبيته محبطٌ من الميليشيات وأحزابها، وعبّر عن رغبته بالعزوف عن التصويت. وإذا لم تكن نتائج الانتخابات في صالح إيران والآخرين، فقد تكون الحكومة الناتجة أكثر انسجامًا مع مصالح الولايات المتحدة. فقد غيّر زعيم أكبر حزب في هذه الانتخابات، مقتدى الصدر، موقفه السابق ودعا مذّاك إلى بقاء القوات الأمريكية في البلاد. ومن المرجح أن يحبّذ النواب السنة والأكراد والمستقلون إقامة علاقة قوية مع الولايات المتحدة.
سردار عزيز هوباحث وكاتب الكوردي. وتشمل مجالات اهتمامه العلاقات المدنية - العسكرية والسياسة الإقليمية في الشرق الأوسط ونظم الحكم. كما انه حاصل على شهادة الدكتوراه في الشؤون الحكومية من كلية جامعة كورك. هو مساهم في معهد ميديتريانة للدراسات الاقليمية.